بقلم :د.طارق منصور
ما أسعد اللحظة التي تمر بحياتك فتأخذك قسرًا إلى قاع الذكريات، حيث تتشابك الخيوط والأحداث، وتختلط الأحلام مع الوقائع والأفعال، فتنتقي من ركام الأيام ما تسعد بالبقاء معه ولو برهة. حملتني اللحظة دون أن أدري إلى نهاية الستينات من القرن الماضي، حين اصطحبني خالي معه إلى إحدى مقاهي الفيوم –حيث كنا نعيش مع أبي- لنستمع إلى السيدة أم كلثوم، ولم أكن أعي وقتها -لحداثة سنى- من تكون! وما أذكره جيدًا أن المقهى كان ممتلئًا بمستمعي الست ومحبيها، وكانوا يتمايلون مع أناتها وآهاتها وهم في حالة من العشق الجارف، الذي استحوذ على المحبين فأسرهم بما لذ وطاب من صنوف الهوى. خرجنا من المقهى بعد أن عشنا ساعات في حالة حب.
وجاء الصباح لأجد خالي يتغنى بقصة الأمس التي ظل مذاقها على الشفاه باقيًا حتى الصباح.
كان والدي يعمل آنذاك في الإشراف على إعادة بناء أحد المواقع العسكرية، وكثيرًا ما كان يصل الليل بالنهار لينهي كافة الإنشاءات المقررة آنذاك؛ فكان يصطحبنا إلى موقع العمل مساءً لنظل معه حتى ساعات الصباح الأولى، وهناك وضع أبي على مكتبه مذياعًا كان صوت الست أم كلثوم ينساب منه كل مساء سلسبيلًا، وكنت أرمق بعض الموظفين يقفون في ردهة المكتب ليستمعوا إلى صوت الست، وكأنهم يتوقون إلى حنوها ليخفف عنهم سهر الليالي ومشاق العمل.
لاشك أن أم كلثوم كانت حالة لا يقاس عليها؛ حالة توافر لها مناخ الإبداع وعناصر التميز، من الكلمات الراقية، إلى الألحان شديدة الخصوبة، إلى حالة الولع التي كانت تنتاب المصريين للتشبع بما ستجود به الست في الخميس الأول من كل شهر. وأتساءل: هل كانت أم كلثوم سببًا في حالة الحب التي غمرت المصريين؟ أم كان السبب هو حالة الرضا والقناعة التي عاشوها آنذاك؟
تذكرت كل هذه الأحداث وأنا أستمع إلى أم كلثوم وصوتها يملأ المكان حبًا وشوقًا في ليلة من ليالي العيد بإحدى استراحات الطرق خارج القاهرة، وقلت في نفسي: "الدنيا لسه بخير، الناس هنا لسه بتسمع الست"! وتذكرت كيف كانت مقاهينا في الستينات والسبعينات لا تعرف طريقًا لجذب روادها سوى صوت أم كلثوم، الذي كان كفيلًا بأن يجذب الزبائن إلى الجلوس على مقاهي بعينها دون الأخرى.
تشابه هذا المشهد مع قرين له في العاصمة التونسية. ففي عام 2001م دعاني الأمين العام لمنظمة الأليكسو لحضور مؤتمر لها بتونس.. وأخذني صديقي العزيز د. محمد بوطالب، رئيس الجمعية التونسية لعلماء الاجتماع آنذاك، في جولة خاصة.. وتملكتني الدهشة حين وجدت أن صوت أم كلثوم سيطر على مقاهي المدن التونسية، وقد اختلط الأثير ليحمل أيضًا نغمات الموسيقار فريد الأطرش ومحمد عبد الوهاب.. لكم كانت سعادتي وأنا أرى إخواني التوانسة جالسين في المقاهي برقي وشياكة، كالجالسين على مقاهي شارع كودام ببرلين أو مقاهي مونستراكي باليونان، ويستمعون إلى تلك الألحان وهم يعيشون حالة من الحب المجرد.. حتى أن أخًا تونسيًا كريمًا ما أن عرف أنني من مصر حتى أصر على دعوتي لأتناول مشروبًا معه.. إنها حالة من الحب طبعها الفن الراقي على عقول العرب ووجدانهم من المحيط إلى الخليج.
لا أود أن أقارن ما صرنا إليه الآن بما كنا عليه في الأمس الجميل، الأمس الذي كان ملوك الغناء الشعبي فيه طِلب ومحمد رشدي والعزبي وماهر العطار وشريفة فاضل وغيرهم، جيل عاش نفس المناخ الذي عاشته السيدة أم كلثوم مع الفارق الزمني بين الأجيال، فجعلونا نمشي بالحب من السيدة لسيدنا الحسين نبحث عن عدوية ووهيبة، ونطير إلى شط إسكندرية لنجد رشدي يستحلف البحر أن يكتم أسرار المحبين، فأبى وأخبر أهاليهم؛ ونترك الإسكندرية لنلقى الفلاح "اللي" قطع الموال وضحك وقال يا صباح الخير يا أهل البندر.. ما أجمل تلك المشاعر التي كانت تحيط بالمصريين أينما حلوا.
أتبسم وأتعجب من كل هذا الحب الذي كان يتملكنا آنذاك، ويوقعنا أسرى في شباكه طوعًا، ولم نفكر يومًا في الفكاك منه، وما أصبحنا عليه اليوم!
تُرى، هل من الممكن أن تنهض مشاعرنا من سباتها لنستعيد الحب الضائع؟
ليست هناك تعليقات: